الطاهر بنجلون و من لا يعرفه

إلى الطاهر بنجلون مع التحية


صوت الصحافة:  

من لم يفهم الماضي..لن يفهم الحاضر.. ولا مكان له في المستقبل
نغمة واحدة أصبحت مسيطرة من المحيط إلى الخليج، على تصريحات وتعليقات وكتابات "أنبياء" الحرية الجدد، وأنصار الليبرالية والحداثة..وغيرها العناوين البراقة الأخرى التي تم الترامي عليها عنوة واحتكار تسويقها وتوزيعها..
نغمة الحزن والأسى على "الديموقراطية" التي تحولت إلى مركب للملتحين لـ"غزو" المؤسسات المنتخبة، ووضع اليد على مراكز صناعة القرار حاضراً ومستقبلا، وربما إلى الأبد..
ولم ينج المغرب هو الآخر طبعا من هذه "المندبة" العربية، رغم أن كثيرين قد ابتلعوا ألسنتهم ولم يفيقوا بعد من الصدمة التي لم يكونوا يتوقعونها.
فيوم 25 نوفمبر لم يكن يوما عاديا بكل المقاييس، بما أنه حمل تكذيبا رقميا لكل الذين اعتادوا بناء تحليلاتهم على معلوماتهم "الخاصة" المستقاة من مصادرهم "المطلعة"، وهو ما يفسر الصمت المتواصل للبعض، أو التسليم بالنتائج على مضض بالنسبة للبعض الآخر، مقابل رفض صريح لما يجري من طرف بعض ثالث يعتبر نفسه فوق كل شيء.. لكن القاسم المشترك بين الجميع هو أن الذين كانوا يبشرون بأن دستور فاتح يوليوز، أعاد المغرب إلى موقع "الخصوصية" التي تجعله غير خاضع لقوانين التاريخ والسوسيولجيا..استفاقوا على حقيقة أغفلوها دائما، وهي أنه يستحيل التنبؤ بالاتجاه الذي يمكن أن تأخذه عجلة التاريخ في أية لحظة من لحظات دورانها الذي لا يتوقف.
في هذا السياق جاء مقال الطاهر بنجلون على صفحات جريدة "لوموند"، تحت عنوان :"الإسلام ينبغي أن يبقى في القلوب والمساجد" ليصب في نفس اتجاه الاستخفاف بإرادة الشعب والسخرية منه، واتهامه بالقصور الذي يبرر فرض الوصاية عليه، ولم لا الحجر على حقوقه السياسية، ومصادرة حريته في اختيار من يحكمه.
ماذا يمكن أن نفهم من مقال السيد الطاهر بنجلون غير التحريض ودفع الأمور نحو التصعيد؟ وتأليب القصر على الحزب الفائز بالأغلبية، والدخول معه في مواجهة مكشوفة؟
ألم يفهم السي الطاهر أن أحد أهم أسباب فشل مشروع حزب الأصالة والمعاصرة يرجع بالضرورة إلى محاولة إقحام المؤسسة الملكية في الصراع الحزبي/الانتخابي، وتحويلها إلى مجرد جزء من "أغلبية"؟
ألا يشعر السي الطاهر بالارتياح لأن الشعب المغربي أسقط مشروع الحزب الوحيد بأقل الخسائر والضحايا؟ أم هل كان يريد أن تتكرر السيناريوهات الدموية ليصدق أن الشعب "الغائب" يمكن أن يعود فجأة ودون سابق إنذار، وأن الأغلبية الصامتة قد تسعل أو تعطس بين الفينة والأخرى لتخرج من خياشيمها بعض "الكائنات" التي تمنعها من التنفس السليم؟
وما الذي سيقدمه السيد بنجلون وأمثاله للوطن إذا اندلعت الحرائق التي يسعون لإشعال فتيلها في كل مكان؟ هل سيقود التيار الحداثي ميدانيا لحماية الديموقراطية كما فعل الانقلابيون في الجزائر قبل عشرين سنة، وكما تفعل "الفلول" اليوم في مصر؟ أم سيكتفي بالتعليق على الأحداث من قلب إقامته الفرنسية عبر الفضائيات، وإملاء اختياراته على شعب لا يستحق الديموقراطية في نظره؟
إن مشكلة السيد بنجلون وزملائه، تكمن في أنهم يفكرون بلغة أجنبية وبثقافة أجنبية حتى حين يكتبون عن شؤون مغربية صرفة..وإلا فلماذا لم نسمع لهم صوتا عندما كان مشروع الحزب الوحيد يأخذ طريقه في المغرب لتكرار السيناريو المصري، بل وحتى التونسي الذي كان بعض "الحداثيين" عندنا يدافعون عنه؟
إن الذين لم ينتقدوا حزب الأصالة والمعاصرة وطرق اشتغاله قبل أن تحجمه شعارات 20 فبراير، ليس من حقهم الحديث اليوم عن مخاطر "الإسلاميين" المحتملة، فقد كانوا شهود زور منذ سنة 2007، ولم ينبسوا ببنت شفة سنة 2009، ولا أقصد هنا فقط متقاعدي اليسار ممن كانوا جزءا من هذا المشروع، بل حتى "المثقفين" المقيمين خلف البحار ممن يفترض أنهم تشبعوا بأصول الديموقراطية الحقة؟
ولهذا لا يحتاج المقال المشار إليه إلى ترجمة أو تحليل لتوضيح أنه يصب في اتجاه "ما يطلبه أصحاب الوقت"، بدليل أنه باستثناء وزير الخارجية الفرنسي و"خطوطه الحمراء"، لم يصدر أي رد فعل ملتبس إزاء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة حتى من إسبانيا الجارة المباشرة، أو أمريكا الحليف التقليدي..بل باستثناء بعض الفرنسيين من أصل مغربي، فإن مغاربة العالم بكل مشاربهم لم يعترضوا على إرادة الشعب واختياره..وإنما رحبوا بهذا التغيير..وتمنوا أن يقود نحو الأفضل..
وليس في هذا تخوينا من أي نوع، بل هو مجرد تساؤل مشروع عن مفهوم الديموقراطية لدى هؤلاء، فقد رأينا كيف أن فرنسا، رغم العداء الظاهري مع النظام الجزائري، كانت أول من شجع العسكر على الانقلاب على الديموقراطية في بداية التسعينات، بل زودت بنعلي حتى آخر لحظة بالسلاح والتقنيات القمعية الضرورية، ولم يكن ساستها يفكرون في فقراء مصر وهم يمارسون السياحة على حساب خزينة هذه الدولة..وهذا دون أن ننسى ما يتعرض له المسلمون من تمييز وتضييق بسبب الدين ولا شيء غير ذلك..
والسيد بنجلون -الذي يدافع ربما عن وجهة النظر الفرنسية في ما يتعلق بنوعية الديموقراطية التي ينبغي اعتمادها في المغرب- لم يأت بجديد في الموضوع، فكثير ممن يوصفون بـ"الليبراليين" في مصر مثلاً لم يكفوا عن التباكي على الديموقراطية منذ سقوط مبارك، وكأنها كانت مزدهرة على عهده، وافتعلوا كل العراقيل الممكنة من أجل التشويش على المسار الانتخابي بعدما عجزوا عن إيقافه، فهم يتقاسمون مع السي الطاهر نفس المنطق الذي يستخف بالمواطنين العاديين، فقط لأن اختيارهم الانتخابي لم يكن وفق أهواء "النخب" المنقطعة عن الشعب وثقافته وهمومه..ألم تقترح إحدى هؤلاء أن يكون للمواطن العادي صوت واحد..ولـ"الحداثي" صوتان..أي للمتعلم مثل حظ الأميين..؟
وإذا سلمنا بأن الـ 45 في المائة التي شاركت في الانتخابات الأخيرة، هي حسب السيد بنجلون دليل على أن "بيداغوجيا العمل الديموقراطي لم تتقدم" في المغرب، فكيف يمكنه تفسير النسبة المسجلة في تونس (90 في المائة) والتي آلت أغلبيتها الساحقة لحركة النهضة؟ فضلا عما يحدث في مصر حاليا؟..ولماذا الربط بين "الديموقراطية" وإقصاء التيار الإسلامي؟
قد تكون لفرنسا والغرب مصلحة في تبني هذا الخطاب، لكن لماذا يتبناه من يحملون أسماءنا ويشاركوننا في الانتماء إلاى الوطن؟
فهل يستطيع السيد بنجلون مثلا أن يقول نفس الكلام في حق الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرفة، ولا نطالبه بذلك حتما، حتى لا يضطر إلى التسكع في حواري فاس مجددا،ً بعد أكثر من أربعين سنة من النوم في حضن الماما فرنسا، وذلك في حال وصلت مارين لوبين إلى الإليزيه في 2012 أو ما بعدها؟ فالسي الطاهر يدرك أكثر من غيره أن خدمته للغة الفرنسية لن تشفع له لدى اليمين المتطرف حتى لو حلق لحيته "المشذبة بعناية"..بما أن أصوله المغربية كافية لإدانته مسبقا وبشكل نهائي..
إننا في الواقع أمام إشكالية متعددة الجوانب والزوايا، حيث تحول التحريض على الإسلاميين إلى أصل تجاري للتكسب، خاصة من طرف بعض غير الموهوبين في المجالات التي تراموا عليها، ويكفي أنه لا أحد من هؤلاء ناقش مثلا البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، بل لا أحد انتظر تشكيل الحكومة وتقديمها لتصريحها ونيلها الثقة، أو حتى أمهلها مائة يوم لمحاسبتها على شيء ملموس، بل رأينا كيف أن كثيرين انتفضوا ضد مبدإ مشاركة هذا التيار أصلا في العمل السياسي بغض النظر عما جاء به من بدائل..وليقرإ التاريخ...
والعجيب أن كثيرا من الذين ركبوا قطار التهويل مبكراً، وكأن المغرب سيتحول خلال أسابيع إلى إيران ثانية لا صوت فيها يعلو فوق صوت "آيات الله".
وحتى نكون منصفين وموضوعيين، فإن حزب العدالة والتنمية ساهم ببعض الخطوات غير المحسوبة سابقا، في تمكين هؤلاء من "نماذج" يرفعونها في وجهه اليوم للتخويف منه ومن تدبيره.
فكثير من عديمي الموهبة لمع نجمهم بفضل ردات فعل متشنجة على "إبداعاتهم الفنية"، حتى أن الفن عندنا أصبح يعني الإثارة الجنسية الرخيصة بكل أشكالها، وكل من احتج أو تأفف من هذا الإسفاف، سرعان ما يتحول إلى ظلامي وعدو للإبداع..مع أن كثيرا ممن يصنفون أنفسهم عندنا ضمن خانة المبدعين هم في الواقع مرضى في حاجة إلى زيارة الطبيب النفسي..هم والذين جندوا المال العام لدعم التفاهة فقط نكاية في الإسلاميين، واستدراجا لردود فعلهم..وليس عجيبا أن يكون القائمون على شؤون السينما والإعلام من المحسوبين على جماعة فرنسا..
إن الاعتقاد بأن المغرب معلق في ذيل الغرب، وأن أي وضع آخر غير ذلك يعني الضياع، هو نوع من الوهم، ذلك أن تركيا الجديدة، حققت معجزات اقتصادية وسياسية في وقت قياسي بعد أن توسعت شرقا وجنوبا، ردا على الأبواب المقفلة للغرب، الذي اضطر مؤخرا لخطب ودها بعدما غطت الموجة الخضراء المنطقة العربية، ولم يعد "الإسلام السياسي" قاصرا على طالبان أفغانستان أو ملالي إيران أو حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين..
وليت السيد بنجلون وأمثاله يدركون الأسباب الحقيقية لفوز الإسلاميين، ليس في المغرب فقط، بل حتى في الدول الأخرى المجاورة مقابل اندحار كل التيارات المدعومة بالمال والإعلام الخليجي والغربي.
فبالنسبة للمغرب الذي يخصنا، لا يمكن القفز هنا على مؤشر في غاية الأهمية، يتعلق بأن حزبي العدالة والتنمية والاستقلال حصلا معاً على 167 مقعداً، أي أكثر من ثلث مقاعد مجلس النواب، وذلك في نفس الوقت الذي تم فيه إطلاق العنان لخطاب عنصري متطرف غير مسبوق، استهدف الحزبين معاً تحديداً، بحكم مرجعيتهما الدينية واللغوية، وذلك على مدى أسابيع وشهور، وشارك فيه كثير ممن منحوا أنفسهم صفة قيادة الرأي العام..ولا يسمح ضيق هذا المقام بالتوسع أكثر في هذه النقطة التي على السيد بنجلون قراءتها بأعين مفتوحة بعيدة عن المصادرة والاستخفاف بإرادة الشعب، خاصة في ما يتعلق بـ"اكتساح" حزب العدالة والتنمية لبعض المناطق الأمازيغية.
إن الشعوب تتعلم من أخطائها..وهذه هي الحقيقة التي يرفض السي الطاهر التعايش معها، ولو كان منصفا لسجل أن التجربة الديموقراطية في فرنسا نفسها تطورت كثيراً على مدى الأربعين سنة الماضية -العمر الفرنسي للسيد بنجلون-، حتى لا نرجع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإلى الثورة الفرنسية التي نقلت البلد من عهد إلى عهد، ومن مسار إلى مسار مغاير تماماً..
ختاما، لم نقرأ في مقال الكاتب الحائز على جائزة "Goncourt"، بادرة أي حل للإشكال الذي افتعله المثقفون والسياسيون الحداثيون..فالشعب اختار الإسلاميين هذه المرة..وقد يتكرر هذا السيناريو بشكل أكثر حدة في الاستحقاقات القادمة..فهل نلغي الانتخابات كما فعل العسكر الجزائري، أم نخلق مؤسسات موازية وبديلة للمؤسسات المنتخبة كما يخطط العسكر المصري، أم نوقع عقد حماية جديد مع فرنسا، بما أن 44 سنة من "الاحتلال" لم تنجح في "تحديث" المغرب، كما أن 55 سنة من الاستقلال لم تؤد في النهاية سوى إلى عودة المغاربة إلى جذورهم الأصلية، في إعلان واضح لوفاة كل مخططات التغريب والفرنسة والعلمنة