قارب فاعلون وأكاديميون التحالفات التي عرفها المشهد السياسي المغربي بعد انتخابات 25 نونبر 2011، من خلال مائدة مستديرة نظمها منتدى كفاءات من أجل المغرب مساء الخميس 5 يناير الجاري، وأجمع المتدخلون في المائدة المستديرة المذكورة على أن التحالفات التي نُسجت بعد الانتخابات تستحق التوقف عندها لتقييمها ومعرفة ما إذا كانت مبينة على قناعات سياسية أم مجرد اصطفافات مرحلية.
وافتتحت الندوة بمداخلة كل من عبد الرحمن السين (مهندس وفاعل جمعوي)، ومنتصر حمادة (الكاتب والعضو في المكتب التنفيذي لمنتدى "كفاءات من أجل المغرب")، حيث تمت قراءة أرضية اللقاء، مفادها أن أهم ما يُميز المشهد السياسي بالمغرب اليوم، خضوعه بعد انتخابات 25 نونبر لتطورات عميقة في بنية التحالفات الحزبية، سواء ذات التراكم التاريخي كحال "الكتلة الديمقراطية"، أو الحديثة العهد قبيل الانتخابات كحال التحالف من أجل الديمقراطية (والذي وتم اختزاله إعلاميا بشعار "G8")، مما انعكس على التحالف الحكومي الذي بني على أنقاضها بقيادة العدالة والتنمية، ومما يطرح صدقية التحالفات ومنهجية تشكلها وآليات ضمان استمرارها موضوعا للنقاش، في ظرف تعاني منه السياسة بصفة عامة من أزمة الحكامة، وبالمقابل تبقى القوى السياسية غير المشاركة من داخل مؤسسات الدولة رافعة لشعار الاستمرارية في نفس النهج الذي سطرته لعملها، ولم تنجح الإصلاحات الدستورية ودعوات الإصلاح السياسي إلى أي تغيير فعلي في مواقع مختلف الفاعلين.
وأضافت أرضية الندوة أيضا، في ظل هذه المعطيات الميدانية، ليس صدفة أن يوصف المشهد السياسي المغربي بأنه مشهد يكمن أن "يتغير فيه أي شيء دون أن يبقى فيه كل شيء في مكانه"، ما دامت معالمه الكبرى مُتحكم فيها بشكل كبير، من خلال فرض تحالفات ووضع خطوطه حمراء، وفي أحسن الأحوال، يتم التناوب الحقيقي بين حقبة ركود تستدعي التحريك لإيقاظه، وحقبة غليان يتم فيها اللجوء إلى التنفيس لضبطه.
وتساءل عبد الرحمن السين، بخصوص تقييم واقع الحقل السياسي المغربي، عما إن كنا أمام استمرارية نسق سياسي قديم، أم إزاء تحولات عميقة في بنية النسق، مستفسرا المتدخلين عن طبيعة المخاطر التي تحدق بمغرب اليوم، وتحديدا المخاطر التي تحدق بالحراك المغربي الذي أفرز حركة 20 فبراير، والذي تميز بتفاعل مختلف الفعاليات السياسية، بدءا من رأس الدولة (المؤسسة الملكية)، حتى الشارع، ومرورا بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
في البداية، اعتبر الدكتور عبد الفتاح البلعمشي مدير "المركز المغربي للدبلوماسية الموازية"، أن العدالة والتنمية يقود الحكومة على أنقاض التحالفات السابقة لانتخابات 25 نونبر، في سياق الرهان على استعادة ثقة المواطن، معتبرا أننا إزاء معارضات وليس معارضة واحدة، وأهمها المعارضة من خارج المؤسسات التي أصبحت معنية بتوضيح رؤاها من المؤسسة الحكومية ومن باقي الفاعلين السياسيين.
كما لاحظ المتدخل أنه ثمة إغفال لدور اللوبيات الضاغطة، سوءا تعلق الأمر بمؤسسات اقتصادية أو أجهزة أمنية، مؤكدا أنه يجب الرهان كثيرا على أداء كبير من قبل الحكومة الحالية بخصوص التصدي لتأثير هذه اللوبيات، كما اعتبر أن منهجية تشكيل الحكومة هي تعبير عن التوازنات الحاصلة بين كل شركاء الحكم، في غياب مشاركة فعلية وازنة للقوى والنخب العازفة غير المفعلة أو غير المشاركة في العمل السياسي، وبالنظر إلى الترسانة القانونية الضابطة والمتحكمة في التمثيلية.
واختتم البلعمشي مداخلته بتذكير الفاعلين في الحكومة الجديدة بأنه لا سياسة داخلية ناجحة، دون سياسة خارجية فاعلة، مما يتطلب برأيه الأخذ بعين الاعتبار طبيعة التوازنات السياسية الدولية، واعتماد مناهج جديدة لاسترجاع اشعاع البلاد في محيطها الاقليمي والدولي.
أما رشيد البلغيثي، الناشط في حركة 20 فبراير، فتوقف عند أهم معالم الدساتير المغربية، ملاحظا أنه منذ أول دستور صدر سنة 1962، حتى دستور فاتح يوليو 2011، يتضح أن الفاعل الأساسي في الحقل السياسي المغربي هو المؤسسة الملكية، وعليه، أصبحت باقي الفعاليات السياسية تكاد تلعب دور المراقب (أو "الكومبارس" برأيه)، مؤكدا أن مطالب الحراك المغربي الذي تقوده حركة 20 فبراير لا زالت وستبقى واضحة، ولا تخرج عن شعارات الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، والغريب، يضيف البلغيثي، أن نجد النخب الحزبية والسياسية تلجأ إلى خطاب التمييع عوض تسمية الأمور بمسمياتها، وعوض التفاعل الإيجابي مع مطالب الحركة.
بالنسبة لمحمد لحمين، عن مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، فأشار إلى أن بناء الدولة لا يتم بالتجييش ولا بالتسخين وإنما يتم عبر أفكار علمية وتلقائية، تتفاعل فيها رؤى الشارع والنخبة في آن، مؤكدا على أن أغلب دول العالم العربي تفتقد صفة الدولة العصرية، مع غلبة طابع الدولة الاستبدادية، بخلاف الحالة المغربية، الراسخة في التاريخ، والتي يغلب عليها الطابع السلطوي وليس الطابع الاستبدادي، وهذه ميزة مغربية بامتياز، وميزتها أيضا، أن حضور المؤسسة الملكية، حضور قوي وقديم وراسخ.
أما التحدي الموجود أمام المغاربة اليوم حسب المتدخل، فهو كالتالي: كيف يمكن توظيف الحراك الشعبي والتفاعلات السياسية والحزبية للحسم في شكل الدولة التي يريد المغاربة.
من جهته، اعتبر الشرقاوي الروداني الباحث الأكاديمي، "برلماني عن الاصالة والمعاصرة"، أن ميزة الزمن السياسي المغربي لا تخرج عن الاحتقان والسلبية، متوقفا عند مقاربة تاريخية لمسار الأحزاب السياسية، وكانت إحدى محطات هذا المسار، الصراعات القائمة بين أصحاب "المشروعية"، وتحديدا بين أحزاب المشروعية الديمقراطية والمشروعية الوطنية، وغيرهم بالطلع، مضيفا أننا لا زلنا نؤدي ثمن استفحال هذه الصراعات اليوم، ومحذرا من الخطورة اليوم تكمن في تزييف الوعي وليس تزييف الانتخابات، فهذه مسألة مقدور عليها برأي المتدخل.
الباحث مصطفى الزعيمي والعضو في جماعة العدل والإحسان، أشار بداية إلى أن حركة 20 فبراير جواب سياسي على نظام سياسي متأزم، وأن الفاعل الرئيسي والمركزي يبقى بالتأكيد هو المؤسسة الملكية، وبالتالي، ساهمت قوة هذا الفاعل في التأثير الكبير على المؤسسات الحزبية بشكل عام.
وأضاف الزعيمي أيضا، أن الحراك الشعبي المغربي قائم في الواقع منذ الاستقلال مع فارق أنه في حركة 20 فبراير، نحن إزاء خروج شعبي عام، غير متحكم فيه، ودون تأطير أو وصاية حزبية أو غير حزبية، وما يغذيه، هو عدم وجود انتقال ديمقراطي في المغرب.
أما الإعلامي والكاتب إدريس الكنبوري، فأشار إلى أن التحالفات السياسية والحزبية تبقى قديمة وليست مستجدة طبعا، وأصلها طبيعة البنية الحزبية، والتي تتميز بأنها بنية انقسامية، وذلك بفعل تدخل الدولة.
على صعيد آخر، يضيف الكنبوري نحن إزاء تحالفات تدين بالولاء للدولة، وليس بالضرورة للإيديولوجيا أو للمشروع السياسي، وفي أحسن الأحوال، إزاء تحالفات حكومية وليست إيديولوجية، متوقفا مع دروس آخر انتخابات تشريعية، حيث سارع حزب العدالة والتنمية في الاتصال بالحزب الذي حصد الرتبة الثانية من أجل التسريع بتشكيل الأغلبية الحكومية، بصرف النظر عن مرجعيته.
بالنسبة للإعلامي محمد سالم الشرقاوي، فارتأى الانطلاق من معطيات الساحة، ومفادها أن بروز حزب العدالة والتنمية كقوة سياسية منضبطة وانتهاء التحالف الثلاثي المشكل لـ "الكتلة الديمقراطية" إلى حالة الكمون وانفراط عقد "تحالف الثمانية" واصطفاف الأحزاب الثمانية الأخرى ذات المقعد والمقعدين في مجموعات لتكملة الأعداد وتحلل 13 حزبا في الطبيعة لعدم حصولها على أي مقعد وركون ثلاثي اليسار إلى تدبير رهانات المقاطعة، هي أبرز سمات المشهد السياسي في المغرب ما بعد انتخابات 25 نوفمبر 2011.
وأضاف المتدخل أنه إذا أريد لهذه التحالفات أن تقوم على مرجعية إيديولوجية وبمنظور استراتيجي بعيد المدى، بالنسبة للكتلة الديمقراطية وعلى أساس رؤية مرجعية موحدة تستشرف لمرحلة تنزيل الدستور الجديد بالنسبة للتحالف من أجل الديمقراطية، فإنها في واقع الأمر، لم تتأسس على قناعات مبدئية لتنظيم المشهد الحزبي وعقلنته، بقدر ما تأسست على قاعدة لم تكن بالعمق الكافي، الذي يمكنها من استشراف المستقبل وتمثل اختيارات الشعب وتقبل نتائج الانتخابات والحد من آثارها على وحدة التنظيمات الحزبية.
كما اعتبر محمد سالم أنه سيكون من غير المنصف تحميل الأحزاب السياسية نتيجة الإخفاقات المرتبطة بسوء التأطير، وهي تكون قدر خرجت، بالكاد، من الرقابة الذاتية والموضوعية، التي كانت تفرض على بعضها حدودا معينة للاشتغال في ظل واقع تنظيمي مهلهل وبوسائل مادية وبشرية محدودة، ليخلص إلى أنه من أن تداعيات الربيع العربي قد حررت الفرقاء السياسيين، وجعلتهم يبادرون، بشجاعة أكبر، إلى إعادة ترتيب أولويات عمل الأحزاب، بعد نجاح حركة 20 فبراير في تحريك بعض المياه الراكدة، حيث دفعت المؤسسة الملكية إلى التحرك للاستجابة لمطالب الإصلاح، التي ما يزال الشباب يرفعونها، دون هوادة، احتجاجا على سقف الإنجازات التي لم تلب طموحاتهم، واختتم مداخلته بالتأكيد على أننا إزاء فرصة تاريخية اليوم لرؤية مشهد سياسي يتجه نحو إعادة البناء الذاتي، من خلال عزم الأحزاب على تنظيم مؤتمراتها في الآجال القريبة، والوقوف على تجربتها وتقييم أدائها بما سيمكن من منح المصداقية للمؤسسات، واستعادة الثقة التي هي أساس التعبئة التي تحتاج إليها البلاد في المرحلة الراهنة، في أفق تكريس سلطة الشعب وجعل صناديق الاقتراع هي مصدر السياسات العامة.
وجاءت آخر المداخلات على لسان محمد الغيث ماء العينين، رئيس منتدى "كفاءات من أجل المغرب"، مؤكدا أن توافق مختلف الفرقاء السياسيين في الحقل السياسي المغربي على شعار "الانتقال الديمقراطي"، دليل على أن بعض مجالات التدبير للحكومي أو المؤسساتي تتميز بوجود ممارسات ديمقراطية مقابل غياب نفس الممارسة في مجالات أخرى.
كما اعتبر رئيس المنتدى الذي نظم هذه الندوة الأولى في حقبة ما بعد تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران، أن أبرز أزمات التيارات الإيديولوجية والأحزاب السياسية المغربية كونها تزعم النطق باسم الشارع أو باسم الرأي العام، في حين أن الشارع لم يخول لأي حزب سياسي أو تيار إيديولوجي أن يكون ناطقا باسمه، وحتى بالنسبة للأرقام الخاصة بالاستحقاق الانتخابي، فإنها تبقى نسبية مقارنة مع أصوات، الناخبين بشكل عام، وتوقف مليا عند أرقام التصويت على الدستور المغربي يوم في فاتح يوليو 2011 مقارنة مع أرقام الناشطين في حركة 20 فبراير، من باب التأكيد على عقد مقارنات سريعة بين هذين الاستحقاقين، تؤكد أنه لا يجوز للفاعلين السياسيين والتيارات الإيديولوجية تكريس نوعا من الوصاية على الشارع المغربي.