و أمام امتناع سي عيسى ، يكلف جاك سمسارا قصد إقناعه... إلا أن السمسار عجز عن ذلك ؛ مما أثار غضب جاك الذي أمره بضرورة الإقناع وإلا استبدله بسمسار آخر ... ففكر السمسار في طريقة أخرى لإقناع سي عيسى ودَفْعِهِ للبيع بثمن زهيد مستغلا طرق الشعوذة التي اقترحها على جاك ... يتوجه السمسار وجاك عند الساحر الذي يزودهم بخطة يقوم بتنفيذها جاك نفسه ...
بعد أن نفد جاك ما أمر به الساحر ، أصبح الرياض مختلفا عما كان عليه ، فنرى سي عيسى بعد سماعه لأصوات غريبة ظن أن هناك لصا بالمكان ... إلا أن طيف امرأة شبح يلوح بهيبة ورعب مما دفع سي عيسى إلى بيعه ... وبذلك تمكن جاك من الاستيلاء على الرياض ...
أصبح جاك جاهزا لاستبدال اسم " درب ابن رزوق " ب "درب جاك" ...و بينما كان جاك يختال في الرياض ظانا أنه بلغ المراد... أحس بحركة غير عادية ... إذ بدا له طيف المرأة / الشبح وهو يدنو منه ، فنراه يفر مرتبكا وهو يمسك بمفاتيح كثيرة ...
و بلمسة فنية رائعة من مخيلة المخرج يتضح - وبتوظيف القناع - أن الطيف/ الشبح هو سي عيسى نفسه ... إذ تمكن من استرجاع " رياضه " بمثل ما سُلِبَ منه ... و يكون بذلك قد حرر الرياض بل حرر الدرب بأكمله ليبقى اسم الدرب كما كان ... وتكون غاية جاك مجرد وهم لم يتحقق .
عشرون دقيقة من الفرجة أبدع فيها المخرج الفنان عبد الإلاه عبد الدايم ... تشد المشاهد شدًّا مستثمرا حكاية جد محبوكة تقبل قراءات مختلفة وتطرح تساؤلات عدة حبلى بالبعد الرمزي الإيحائي ...
"رياض سي عيسى " نموذج حي لواقع كائن ... لكن المعالجة اختلفت باختلاف التصور ...
سي عيسى حالة خاصة ... متمسك أكثر برياضه على اعتبار أن هذا الأخير رمز للثقافة والحضارة والتراث .... فإذا بادر سكان درب ابن رزوق إلى بيع رياضاتهم؛ فإن سي عيسى لم ينفع معه مال جاك بل خرق المألوف الذي دأب عليه سكان الدرب ، فكسر القاعدة ليعلن تمرده ورفضه رغم بساطة الحياة ولذلك أكثر من دلالة ... فتكسير القاعدة و إعلان التمرد والرفض موقف صريح يعكس سعيا نحو الحفاظ على التراث و الثقافة والقيم الاجتماعية والهوية و صفاء الانتماء ... هذاما يمكن أن نصطلح عليه بالاتصال الفضائي (Embrayage spatial) فسي عيسى متصل أكثر بفضائه ...
وبالمقابل ف "جاك" يشكل الوجه النقيض... فهو يمثل انفصالا فضائيا مزدوجا (Débrayage spatial Double) يمكن أن ننظر إليه من زاويتين :
& زاوية الانفصال الفضائي الكائن : وتتجلى في انفصاله عن بلاده واقتحامه لعالم لا تخفى معالمه .
& زاوية الانفصال الفضائي الممكن والمحلوم به : وتتجلى في سعيه لتغيير حياة درب ابن رزوق بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والحضارية ... وفصل السكان عن عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم ...
إن سعيه إلى استبدال اسم الدرب سعي إلى الاستيلاء وما يعقبه من سلبيات ، ويمكن القول إنه سعي منه إلى اجتثاث قيم اجتماعية وحمولة ثقافية من جهة أولى وسعي إلى تغيير حياة ومعالم درب بأكمله من جهة ثانية ... مستثمرا أمواله ومستغلا فقر السكان ... من هنا تتضح الرؤية بالنسبة ل سي عيسى الذي ظل متمسكا برياضه ويصح القول إن حكمنا عليه بالشخص الحالة ...
هناك عاملان فاعلان في الفيلم :
1- السمسار : مساعد جاك على تحقيق مبتغاه ، فلازمتـه المتتالية التكرار و المتجلية في "والله العظيم" تجعلنا نطرح أكثر من تساؤل : هل السمسار مساعد حقيقي ؟ أم أنه مساعد بلباس المعيق لمبتغى جاك ؟ المؤكد أن اللازمة المتكررة تمويه صريح من السمسار قصد كسب المال بحكم مهنة السمسرة ، و هو تمويه مضمر تحكمت فيه لمسة فنية في الإخراج ...
2- الساحر : المعيق المتخفي لما يطمح له جاك بتوظيفه للشعوذة ، بقدر ما ساعد جاك على امتلاك الرياض ، ساعد سي عيسى على استرجاع رياضه بل أكثر من ذلك ساهم في إفشال مخطط الهيمنة ...
ومن هنا يطرح سؤال آخر : هل السمسار والساحر وجهان لعملة واحدة ؟ ذلك يبدو شبه مؤكد ، ولكن اللمسة الفنية في الإخراج تركت للمتلقي باب التأويل مفتوحا ... تلك عملية تميز الأفلام و تدفع المتلقي / المشاهد إلى قراءة الخطاب الفيلمي لما يضمر إبدعيا ...
إذن يبرز سؤال آخر : ما حقيقة الطيف / الشبح ؟ هنا تطرح معادلة في ظهور الطيف /الشبح ، ظهور أول لدرء فكرة عدول سي عيسى عن بيع الرياض ؛ وظهور ثان يستهدف منه استرجاعه ... إذن نحكم مسبقا أن ظهور الطيف /الشبح معادلة تنحو منحيين : منحى الحقيقة في الأول ومنحى الوهم في الثاني ... ولاسيما أن الطيف /الشبح في الظهور الثاني مفتعل بشكل فني ... إذ ندرك أن سي عيسى هو الطيف /الشبح بتواطؤ مع الساحر ... فتتداخل الحقيقة بالوهم ... وتتعدد القراءات ... و قد نجازف بالقول : إن السمسار - بشكل أو بآخر- مشارك في اللعبة ... وهذا التداخل يحيلنا إلى استنتاج آخر هو أن اللعبة لا نستثني منها السمسار ... هكذا تكون اللعبة ثلاثية الأطراف : السمسار و سي عيسى و الساحر في تآلف مضمر ... غايته الحيلولة دون تحقيق جاك لهدفه ... إن الإغراق في التأويل يجعلنا نفكك – بشكل موسع - الخطاب الفيلمي ذا الأبعاد الكثيرة والمتعددة ... فالاستيلاء يستهدف طمس معالم حضارية و ثقافية وتمزيق هوية .... ف "جاك" هنا وجه من أوجه الاستعمار ... لأن الدرب بقدر ما هو فضاء خاص فهو أيضا فضاء أعم وأشمل : إنه المجتمع برمته ...
الفيلم لوحة فنية لواقع حقيقي .... فهناك أكثر من عيسى .... لأن الرياضات (جمع رياض ) تباع من قبل أصحابها ، ومن خلال النهاية ( LA Chute ) تكسر قاعدة ما هو سائد ... حيث تتضح الرسالة المتوخاة وهي تجاوز ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون ... فدرب ابن رزوق تراث وثقافة وقيم اجتماعية متوارثة ؛ بل إن الإسم في حد ذاته " ابن رزوق " فضاء ترسخت فيه تلك القيم وتجليات الثقافة ومعالم الحضارة ... فهذه العناصر ثابتة وأصيلة ؛ لا يمكن إطلاقا ل "جاك" استئصالها ... وقد نلامس هذا المعطى في عنصرين / لوحتين :
- اللوحة الأولى : إذ بداية التصوير اتخذت – تقنيا – مسارا تنازليا ؛ حيث نرى الصورة تبتدئ من أعلى إلى أسفل لتبيان أن درب ابن رزوق واقع معيش وقائم الذات ... واقع يعرف شرخا وتمزقا ... وهنا تتضح معالم المعالجة في الخطاب الفيلمي : تثبيت القائم أو الكائن والسعي نحو تجاوزه .
- اللوحة الثانية : نهاية التصوير اتخذت مسارا تصاعديا من أسفل إلى أعلى ؛ وبتقنية جميلة تم توظيف السلم الذي يصعد سي عيسى أدراجه كي يزيح الصفيحة التي ألصقها جاك غير مثبتة بشكل جيد ، فأزالها بسرعة لتبدو الصفيحة الأصلية وقد كتب عليها الاسم الأصلي للدرب " درب ابن رزوق " ولهذا أكثر من دلالة ؛ إذ الأصل أصل ... والقيم ثابتة ... لايمكن للأجنبي أن يجثثها مهما سعى إلى ذلك .... وهذا المسار التصاعدي أبرز مشهدا أكثر دينامية ويتجلى في عودة الأطفال للعب وبكرات كثيرة ....
إن الفيلم زاخر بالتساؤلات ... منفتح على تأويلات عدة .... ونتمنى للمخرج عبد الالاه عبدالدايم الاستمرار في الإبداع ...